مقال رئيس التحرير

مين قسم مصر!

بقلم: أيمن فاروق:

زمان.. حين كنا نردد باطمئنان أن الفقر ليس عيبًا، بل ربما دليل عفة وكرامة ونقاء يد، كان الرجل الفقير يُحترم لأنه مكافح، يُوقر لأنه لا يمد يده، وتُقدّر معاناته لأنها تحمل شرفًا؛ أما اليوم، فصار الفقر وصمة، يُسأل الفقير عنها كأنها خطيئة، يُعامل كمتهم، يُحاصر في كل اتجاه، وكأن ضيق اليد هو من اختار له طريقه لا القدر ولا السياسات ولا المنظومة “البايخة”.

في السنين الآخيرة، لم نعد نتحدث عن طبقات اجتماعية فحسب، بل عن دولتين داخل الدولة الواحدة! “مصر” التي نعرفها، وأخرى جديدة باسم “إيجبت“، تلك التي لا تطالها الأزمات ولا تسمع أنين الغلاء ولا تسهر تفكر في قسط مدرسة أو علاج طفل، سكان “إيجبت” يعيشون في “كمباوندات” ببوابات إلكترونية ـــــ تحميهم من دونهم ــــ يتعلمون في مدارس دولية، يتنقلون بسيارات فارهة، ويفكرون في أي بلد سيقضون عطلة نهاية الأسبوع.. بينما سكان “مصر” يعيشون يومهم بيومهم، يتنقلون بين طوابير الدعم ومكاتب التموين، ويعدّون الجنيهات على أمل أن تكفي ما تبقّى من الشهر، بيحسبوا الجنيه قبل ما يخرج من جيبهم، هيكفي العيش والدكتور الغالي، ومصاريف مدرسة ولادهم اللي بتزيد كل سنة!

منذ قرون؛ فشلت محاولات كثيرة لتمزيق النسيج المصري، لم تنجح الطائفية، ولم تفرقنا الجغرافيا بين ريف وحضر، ولكن الآن.. التفاوت الطبقي صنع جدارًا خرسانيًا حقيقيًا بين أبناء الوطن الواحد، جدار لا يُرى بالعين، لكن تستشعره في كل شارع، في كل وجبة طعام، في كل زيارة لطبيب، وفي كل مدرسة ومستشفى ومحطة بنزين.

افتح السوشيال ميديا شوية، هتلاقي وجع الناس ــ بقى زي ورق الشجر في الخريف ـــ واقع على بعضه، حكايات عن عجز ويأس وأمل ضايع، وفجأة، تلاقي خبر سرقة 50 مليون جنيه و15 كيلو دهب و3 ملايين دولار من فيلا واحدة! أو ضبط عصابة بتصنع مخدرات بـ240 مليون جنيه، أو مستريح شرب الناس 100 مليون في شهرين! أخبار تضربك على دماغك وانت لسه بتدوّر على حل لخمسين جنيه ناقصين في مصاريف الشهر.

والمشكلة الأكبر؟ إن الدولة نفسها مش قادرة تحدد “مين هو الفقير”! هل هو العامل اللي شغال بإيده كل يوم وبيتفاوض على رزقه؟ ولا الموظف اللي مرتبه ثابت وبيموت من القلق مع كل موجة غلاء؟ طب الحرفي ممكن يزوّد أجره حسب السوق، لكن الموظف الغلبان مربوط بسقف، وكل ما يزيد ويشم نفسه قيراط، السوق بيرفع الأسعار 24 قيراط.

واللي يوجع أكتر، إن الفقير بقى ساكت.. لأ، ده اختفى! بطل يصرخ، وبقى مستخبي؛ لا بيقعد في الكافيهات ولا حتى القهاوي، لا بيشتكي ولا بيكتب بوست، لأنه ببساطة مشغول إنه يعيش، تلاقيه قاعد في بيته، خايف ينزل، مش قادر يجيب لولاده حاجة ساقعة عشان بقت بـ15 جنيه! اللي ممعهوش مش بيظهر، واللي مش ظاهر.. مفيش حد سامع صوته.

نيجي للسؤال اللي مش هنسكت عنه:
هل الفقر هو اللي قسم مصر، ولا السياسات هي اللي حفرت الحفرة دي وصنعت الفجوة؟ مين اللي حوّل المواطن لكائن بيدوّر على فرصة عيش كريمة كأنها كنز؟ مين اللي خلى تعليم الأولاد مشروع استثمار مرهق، والعلاج رفاهية؟ احنا مش ضد الأغنياء، لكن بنسأل: فين التوازن؟ فين العدل؟ فين دور الدولة اللي المفروض ميزانها مايميلش؟

الفقر زمان كان شرف، النهاردة بقى عار.. مش على الفقير، على المجتمع كله، لو الانقسام الصامت بين “مصر” و”إيجبت” فضّل يكبر ويتسع، مش هنحتاج عدو خارجي، إحنا هنكفي نفسنا بنفسنا، وهيكون الداخل “قد تكفّل بكل أدوات الهدم.”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى