وجع الموت!..حين تصبح الراحة الأخيرة رفاهية “عايزه واسطه”

في لحظات الفقد، لا يطلب الإنسان الكثير… فقط موضعًا هادئًا يُسجِى فيه جسد من أحب، بقعة تراب يسكنها بصمت، تُغسَل فيها الأحزان بالدموع، وتُقال عندها الكلمات الأخيرة. لا رفاهية هناك، بل طمأنينة أخيرة.. لكن في قلب القاهرة، يبدو أن حتى هذا الحق؛ لم يعد متاحاً للجميع.
فبينما تمضي مشروعات “تطوير العاصمة” بوتيرة أسرع من نبض البشر، تسقط تحت معاول الهدم مقابر تتجاوز في تاريخها أعمار الأحياء، قبورٌ لرموز وطنيّة وأُسر مصرية امتدت لقرون، وأخرى لفقراء لم يملكوا في حياتهم شيئًا سوى هذه الرقعة الأخيرة، لكن الكارثة لا تقف عند حدود الهدم؛ بل في غياب البديل العادل.
ما يحدث اليوم ليس “إعادة تخطيط”، بل اقتلاع لذاكرة جماعية، ودفن لما تبقى من كرامة بعد الموت. المقابر البديلة – حين تكون موجودة – بالكاد تكفي لفرد وأسرته الصغيرة، بينما كانت المقابر القديمة تأوي أجيالًا من العائلات، وتشكّل حائطًا من الطمأنينة في وجه الفقد.
وفي مفارقة مأساوية، باتت المقابر تُباع بالملايين، وتُمنح بالوساطات! قفزت أسعارها في بعض المناطق لأكثر من مليون جنيه، وتحوّلت من حق إنساني إلى سلعة نخبويّة، تُباع وتُشترى، ويُتداول بها كما تُتداول الشقق الفارهة. والمؤلم أكثر، ما يتردّد عن تخصيص مقابر خفية عبر شبكة محسوبية، طالت مسئولين كباراً، بينما يتوسّل المواطنون “شقًّا من تراب” يدفنون فيه موتاهم.
أي عدالة تلك التي تجعل الغني يموت مطمئنًا، بينما يقف الفقير منتظرًا!؛ في طابور الحياة والموت معًا؟
تخيل أن المقابر أصبحت “بواسطة”، وتخيل أن تصل إلى لحظة لا تجد فيها مكانًا تدفن فيه والدك أو زوجتك أو حتى نفسك!
“زمان كانوا يسخروا من اللي يشتري جبّانة، ويقولوا: الحي أبقى من الميت.. اشترى شقة لأولادك بدل ما تضيع فلوسك على مترين تراب”!، اليوم.. صارت تلك “السخرية” حلمًا بعيد المُنال، لأن لا المقابر متوفرة، ولا أسعارها تُطاق.
سأحكي لكم ما هو أكثر مرارة، أنا من بين آلاف لا يملكون مدفنًا، فقط نتمسّك بمقبرة عائلية تعود لعهد الملكية، نأمل ألا تصلها الجرافات! لكن القصة ليست عني، بل عن رجل من صعيد مصر، ترك قريته في أسيوط مهاجرًا إلى القاهرة بحثًا عن حياة، فصار دكتور صيدلي في أحد أكبر المستشفيات الحكومية الهامة يوماً ما، سكن شقة صغيرة بإيجار قديم في شبرا، وتزوج وأنجب فتاة وحيدة.. صارت زوجتي.
ورغم كل ما أنجزه، لم يمتلك شيئًا، حتى المقبرة العائلية اندثرت، وعندما كتب وصيته، أوصى بدفنه في مدافن أهل زوجته، بحثنا فوجدنا أن المقبرة بها نحو 20 متوفى، وينتظرها ثلاثون آخرون على قائمة الحجز! تخيل..قائمة انتظار للموت!
وبعد بحث مُضنٍ، علمت أن محافظة القاهرة تخصص مقابر مساحتها 40 مترًا بطريق السويس – الكيلو 4.5، حاولت التواصل مع معالي المحافظ الدكتور إبراهيم صابر، ولم أفلح.. ومع كل محاولة، كنت أستمع لأغانٍ وطنية على “رنة” هاتفه المحمول – ربما كانت تلك “المنفعة” الوحيدة التي خرجت بها من محاولاتي.
راسلته.. لم أجد ردًّا؛ ربما الرجل مشغول! فهو على أي حال، قادم من خلفية مشرفة، وقد صعد من الدرجات الوظيفية الدنيا إلى أعلى المناصب.
فحلالٌ على من استطاع التواصل مع سيادته؛ ونال نصيباً من جبانه جديدة! وربنا يرزق حمايا – الصيدلي الطيب – بوساطة تليق بمقام وداعه الأخير، ويرزقنا معه.
إن وجع الموت لم يكن لأحداً أن يعرفه حقًا. لم يُخبرنا أحد من الراحلين كيف يكون الإحساس عند عبور العتبة الأخيرة؛ لكننا اليوم، نبدأ في تذوق أول أوجاعه ونحن أحياء..!
تخيل أن يمتلئ قلبك بالخوف، لا من الموت ذاته، بل من ألا تجد قبرًا يأويك! أن تكون هواجسك الأخيرة ليست حول الخاتمة أو الحساب، بل كيف سيُشيّع جسدك.. وأين؟
أن تُثقل على أحبّتك لا بالحزن، بل بعبء الدفن، أن يهرولوا بعد موتك يستجدون مكانًا يضمك، يسألون الناس صدقة، لا لدواء.. بل لمتر تراب.
أي ذلّ هذا الذي يضع الإنسان في طابور التسوّل حتى بعد موته؟
أي ظلم يجعل آخر حق لك في الحياة مرهونًا بوساطة أو محسوبية؟
تُرى، هل باتت “راحة الموت” امتيازاً لا يناله إلا من له (ضهر).. حتى في القبر؟
نحن الجيل الذي تَفهَّم ارتفاع أسعار الشقق، ورضي بالإيجار المؤقت بدلاً من التمليك المستحيل، وذلك حين ضاق به الحق في السكن، نحن جيل قبل أن يتقشّف حين ارتفعت أسعار الطعام، وتغاضى عن الرفاهيات، بل وبعض الضرورات ، نحن جيل قبل حتى أن يتناول أدوية لا تنفع، لأن غيرها أغلى، لكن.. أن نُحرَم من موضع نهائي يضم أجسادنا بعد الموت؟ أن نقبل بعدم وجود موضع نُدفن فيه؟ هذه ليست أزمة إسكان، بل أزمة ضمير، بل هى مأساة أخلاقية تتجاوز حدود التخطيط العمراني أو العجز المالي، إنها إهانة مستترة لكرامة الإنسان في أضعف حالاته، خاصة عند النظر إلى مبدأ الوساطة والمحسوبية.
من المؤسف أن تصبح المقابر سلعة، وأن يتحول الموت إلى أزمة يُدار فيها السوق لا المشاعر. لا أحد يطالب برفاهية القبور، بل فقط بعدم انتهاكها، لا أحد يسأل عن “أرض بالوراثة”، بل عن أرض تُورث للسكينة.
المقابر لم تكن يومًا رفاهية، بل ملاذ أخير.. والسكينة بعد الموت، ليست ترفًا، بل حقّ؛ وإن صمتت الأرواح، فالمجتمع لا يجب أن يصمت عن إهانة الموتى.
والسؤال: هل أصبحت القاهرة تضيق بالأحياء.. والأموات معًا؟
هل كل من استطاع التواصل مع سيادة المحافظ يستحق الحصول على مدفن وهل (بالفعل) سيكون مدفنه أم جزء من استثمار جديد؟!
وهل هناك ما هو أقسى من ألّا تجد قبرًا يُقال عنده: هنا يرقد… بسلام؟